خواطر حول ظاهرة الترادف في اللسان العربي
قبل ايام قليلة نشرت مقالا بعنوان (من فلسفة العربية في اسماء العقل)
وقلت في مقدمته :-
(عظم العرب العقل وشرفوه، ومن مظاهر ذلك تعدد اسماء حالاته و اوضاعه في لسانهم و لغتهم ... ولهم في ذلك فلسفة ووجهة نظر دفعتهم لاطلاق مترادفات العقل على مسماه،فتعددت اسماءه حسب احواله التي حصروها).
وبينا تلك الاسماء بالشرح والتوضيح، خاصة التي استعملها القران الكريم.
فطلب مني احد الاخوة جزاه الله خيرا ، ان اكتب وافرد مقالا حول الترادف في اللغة العربية والاشتراك، وها قد لبيت الدعوة مستعينا بالله تعالى طالبا منه تعالى التوفيق للسداد والصواب ، فاكتب مفاتيح للموضوع لاني لن استوعبه واسبر اغواره في عجالة او مقالة ، ولكن عسى ما اكتبه يكون نقطة انطلاق ولفتة نظر للباحثين والمهتمين ...
الترادف معناه لغة : التتابع . وقد فسّر الزجاج قوله تعالي: «بألفٍ من الملائكة مُردفين »قال معناه: يأتون فرقة بعد فرقة. وقال الفراء: مردفين: متتابعين.
وأردف الشيء بالشيء وأردفه عليه: أتبعه عليه. قال الزجاج: يقال: ردفتُ الرجل اذا ركبتُ خلفه، وأردفته أي أركبته خلفي. وردف الرجل وأردفهُ: ركب خلفه، وارتدفه خلفه علي الدابة. ورديفك: الذي يرادفك اي يليك، والجمع رُدفاء ورُدافى . والرديف: المرتدف، والجمع رداف. واستردفه: سأله أن يردفه.
والمترادف في علم العروض وموازين الشعر العربي هو : كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان، سمي بذلك لان غالب العادة في أواخر الأبيات ان يكون فيها ساكن واحد، فلما اجتمع في هذه القافية ساكنان مترادفان كان أحد الساكنين ردف الآخر ولاحقاً به.
فالترادف لغة : لفظ مشتق من الفعل: رَدِفَ، أو المصدر: ردف، والردف: ما تبع الشيء. وكل شيء تبع شيئاً، فهو رِدْفُهُ، واذا تتابع شيءٌ خلف شيء، فهو الترادف والجمع الرادفى. يقال: جاء القوم رُدافى أي بعضهم يتبع بعضاً.
(انظر لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروز ابادي)
اما اصطلاحا: فقد تواضع علماء فقه اللغة على اطلاقه من باب المجاز على كلمتين او اكثر تشترك في الدلالة علي معنى واحد . لان «الكلمات قد تترادف علي المعنى الواحد أو المسمّى الواحد، كما يترادف الراكبان على الدابة الواحدة.
وعلي هذا فالعلاقة في هذا الاستعمال المجازي هي التشابه» ، حيث شُبهت الكلمتان في ترادفهما وتتابعهما ودلالتهما على المعنى الواحد بالراكبين وترادفهما على الدابة الواحدة.
(انظر الترادف في اللغة لحاكم بن مالك الزيادي).
والترادف بهذا المعنى الاصطلاحي ضده المشترك .
والمشترك عرفه جلال الدين السيوطي قي كتابه النفيس المسمى : المزهر في علوم اللغة وانواعها : بانه «اللفظ الواحد الدال علي معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة». ومن الالفظ المشتركة لفظ كلب، فهو دال على الحيوان الاليف المعروف المقتنى للحراسة او الصيد ، ويطلق على السباع المفترسة عموما، والكلب عند البنائين حجر يمسك حجارة القوس، وتطلق مجازا لذم و هجاء رخيص النفس من الرجال اجلكم الله، ومنه لفظة سليم تطلق على الضدين من المعاني مغا، فهي في الاصل تطلق على المعافى، ويطلقونها على الذي لدغته الافعى وسرى سمها في جسده، تيمنا له بالشفاء .... وكذلك كلمة الجزاء تطلق ويراد بها العقوبة وتطلق ويراد بها التكريم والمكافأة والمثوبة ...
اما الترادف فان علماء فقه اللغة انقسموا فيه الى اقسام تلاثة، فمنهم المقر له على الاطلاق ، معتبرا اياه من مفاخر العربية وسعتها وقدرتها على التعبير ، كالاصمعي صاحب رسالة (ما اختلفت الفاظه واتفقت معانيه)، وابن خالويه الذي ألّف كتابين، أحدهما في أسماء الأسد، والثاني في أسماء الحية. ومنهم ايضاً: الرماني الذي ألّف (كتاب الالفاظ المترادفة والمتقاربة في المعني). وكذلك ألّف الجواليقي رسالة بعنوان: (ما جاء علي فعلتُ وأفعلتُ بمعنيً واحد). وألّف ابن مالك كتاب (الألفاظ المترادفة في المعاني المؤتلفة). ومن اصحاب هذا المذهب ايضا ابن جني الذي دافع عنه بقوة كما يتضح من قوله
في كتابه الخصائص: «وجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً لا يكاد يحاط به». وفيه يحكم علي من يُنكر ان يكون في اللغة لفظان بمعني واحد، و يحاول أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس، وبين ذراع وساعد، بأنه متكلّف.
ومنهم المنكر له على الاطلاق معتبرا ان ما جاء من تعدد اسماء المعنى الواحد انما هو صفات للاسم لا اسماء له، ومعتبرا له نوع من دقة العربية في الوصف فترد الصفة معرفة ودالة على الاسم او اللفظ حسب احواله ،
ومن اصحاب هذا المذهب ثعلب و تلميذه ابن فارس صاحب كتاب الصاحبي وابي منصور الثعالبي صاحب كتاب فقه اللغة واسرار العربية والخطابي صاحب كتاب بيان اعجاز القران ...
ومنهم من توسط بين الرأيين فاقره شريطة ان يكون الترادف بين الالفاظ معبرا تعبيرا تاما ومطابقا للمعنى الدلالي الواحد عند اطلاقه، كقولهم حُبلى و حامل فان اي لفظ منهما اطلق دل على المرأة ذات الجنين في احشائها.
ويتضح لنا ذلك الخلاف بين علماء اللغة، وتتلخص قصته، من خلال ما نقل السيوطي رحمه الله في كتابه المزهر: حكاية عن أبي علي الفارسي، قوله: «كنتُ بمجلس سيف الدولة بحلب، وبالحضرة جماعة من أهل اللغة، وفيهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظُ للسيف خمسين اسماً، فتبسّم أبو علي وقال: ما احفظ له الا اسماً واحداً، وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهنَّدُ والصّارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفاتٌ: وكأنّ الشيخ لا يفرِّقُ بين الاسم والصفة».
وعلى اية حال فان الترادف موجود في اللغة ولكن عند التدقيق نجد ان الترادف جاء في لغة العرب لاضافة معنى بلاغي وايضاح معنى بياني ليس في غيره، وهو يسعف الشعراء والخطباء والكتاب في سعته وقدرته على ايضاح التعبير واجلاء البيان. وميزة للغة جعلتها لغة ملهمة لاهل التعبير. حيث ان الفصاحة مادتها اللسان، والبلاغة مادتها التعابير والقدرة بها على البيان.
وكي لانطيل الموضوع ونختصر الكلام فاقول ان هذا الموضوع حري بالبحث والتنقيب، والجد والاجتهاد، لانه قوام علم فقه اللغة وعماده واساس مادته، هذا العلم الذي يجب ان يحييه اهل اللغة الشريفة السامية التي اصطفاها اللّه وعاءً لحكمته، ومناراً لهدايته ، وخلدها بتنزيله شرعته ومنهاجه للعالمين بها. اللهم فقهنا في ديننا ولغة ديننا وعلمنا ما جهلنا وزدنا اللهم علما، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قبل ايام قليلة نشرت مقالا بعنوان (من فلسفة العربية في اسماء العقل)
وقلت في مقدمته :-
(عظم العرب العقل وشرفوه، ومن مظاهر ذلك تعدد اسماء حالاته و اوضاعه في لسانهم و لغتهم ... ولهم في ذلك فلسفة ووجهة نظر دفعتهم لاطلاق مترادفات العقل على مسماه،فتعددت اسماءه حسب احواله التي حصروها).
وبينا تلك الاسماء بالشرح والتوضيح، خاصة التي استعملها القران الكريم.
فطلب مني احد الاخوة جزاه الله خيرا ، ان اكتب وافرد مقالا حول الترادف في اللغة العربية والاشتراك، وها قد لبيت الدعوة مستعينا بالله تعالى طالبا منه تعالى التوفيق للسداد والصواب ، فاكتب مفاتيح للموضوع لاني لن استوعبه واسبر اغواره في عجالة او مقالة ، ولكن عسى ما اكتبه يكون نقطة انطلاق ولفتة نظر للباحثين والمهتمين ...
الترادف معناه لغة : التتابع . وقد فسّر الزجاج قوله تعالي: «بألفٍ من الملائكة مُردفين »قال معناه: يأتون فرقة بعد فرقة. وقال الفراء: مردفين: متتابعين.
وأردف الشيء بالشيء وأردفه عليه: أتبعه عليه. قال الزجاج: يقال: ردفتُ الرجل اذا ركبتُ خلفه، وأردفته أي أركبته خلفي. وردف الرجل وأردفهُ: ركب خلفه، وارتدفه خلفه علي الدابة. ورديفك: الذي يرادفك اي يليك، والجمع رُدفاء ورُدافى . والرديف: المرتدف، والجمع رداف. واستردفه: سأله أن يردفه.
والمترادف في علم العروض وموازين الشعر العربي هو : كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان، سمي بذلك لان غالب العادة في أواخر الأبيات ان يكون فيها ساكن واحد، فلما اجتمع في هذه القافية ساكنان مترادفان كان أحد الساكنين ردف الآخر ولاحقاً به.
فالترادف لغة : لفظ مشتق من الفعل: رَدِفَ، أو المصدر: ردف، والردف: ما تبع الشيء. وكل شيء تبع شيئاً، فهو رِدْفُهُ، واذا تتابع شيءٌ خلف شيء، فهو الترادف والجمع الرادفى. يقال: جاء القوم رُدافى أي بعضهم يتبع بعضاً.
(انظر لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروز ابادي)
اما اصطلاحا: فقد تواضع علماء فقه اللغة على اطلاقه من باب المجاز على كلمتين او اكثر تشترك في الدلالة علي معنى واحد . لان «الكلمات قد تترادف علي المعنى الواحد أو المسمّى الواحد، كما يترادف الراكبان على الدابة الواحدة.
وعلي هذا فالعلاقة في هذا الاستعمال المجازي هي التشابه» ، حيث شُبهت الكلمتان في ترادفهما وتتابعهما ودلالتهما على المعنى الواحد بالراكبين وترادفهما على الدابة الواحدة.
(انظر الترادف في اللغة لحاكم بن مالك الزيادي).
والترادف بهذا المعنى الاصطلاحي ضده المشترك .
والمشترك عرفه جلال الدين السيوطي قي كتابه النفيس المسمى : المزهر في علوم اللغة وانواعها : بانه «اللفظ الواحد الدال علي معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة». ومن الالفظ المشتركة لفظ كلب، فهو دال على الحيوان الاليف المعروف المقتنى للحراسة او الصيد ، ويطلق على السباع المفترسة عموما، والكلب عند البنائين حجر يمسك حجارة القوس، وتطلق مجازا لذم و هجاء رخيص النفس من الرجال اجلكم الله، ومنه لفظة سليم تطلق على الضدين من المعاني مغا، فهي في الاصل تطلق على المعافى، ويطلقونها على الذي لدغته الافعى وسرى سمها في جسده، تيمنا له بالشفاء .... وكذلك كلمة الجزاء تطلق ويراد بها العقوبة وتطلق ويراد بها التكريم والمكافأة والمثوبة ...
اما الترادف فان علماء فقه اللغة انقسموا فيه الى اقسام تلاثة، فمنهم المقر له على الاطلاق ، معتبرا اياه من مفاخر العربية وسعتها وقدرتها على التعبير ، كالاصمعي صاحب رسالة (ما اختلفت الفاظه واتفقت معانيه)، وابن خالويه الذي ألّف كتابين، أحدهما في أسماء الأسد، والثاني في أسماء الحية. ومنهم ايضاً: الرماني الذي ألّف (كتاب الالفاظ المترادفة والمتقاربة في المعني). وكذلك ألّف الجواليقي رسالة بعنوان: (ما جاء علي فعلتُ وأفعلتُ بمعنيً واحد). وألّف ابن مالك كتاب (الألفاظ المترادفة في المعاني المؤتلفة). ومن اصحاب هذا المذهب ايضا ابن جني الذي دافع عنه بقوة كما يتضح من قوله
في كتابه الخصائص: «وجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً لا يكاد يحاط به». وفيه يحكم علي من يُنكر ان يكون في اللغة لفظان بمعني واحد، و يحاول أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس، وبين ذراع وساعد، بأنه متكلّف.
ومنهم المنكر له على الاطلاق معتبرا ان ما جاء من تعدد اسماء المعنى الواحد انما هو صفات للاسم لا اسماء له، ومعتبرا له نوع من دقة العربية في الوصف فترد الصفة معرفة ودالة على الاسم او اللفظ حسب احواله ،
ومن اصحاب هذا المذهب ثعلب و تلميذه ابن فارس صاحب كتاب الصاحبي وابي منصور الثعالبي صاحب كتاب فقه اللغة واسرار العربية والخطابي صاحب كتاب بيان اعجاز القران ...
ومنهم من توسط بين الرأيين فاقره شريطة ان يكون الترادف بين الالفاظ معبرا تعبيرا تاما ومطابقا للمعنى الدلالي الواحد عند اطلاقه، كقولهم حُبلى و حامل فان اي لفظ منهما اطلق دل على المرأة ذات الجنين في احشائها.
ويتضح لنا ذلك الخلاف بين علماء اللغة، وتتلخص قصته، من خلال ما نقل السيوطي رحمه الله في كتابه المزهر: حكاية عن أبي علي الفارسي، قوله: «كنتُ بمجلس سيف الدولة بحلب، وبالحضرة جماعة من أهل اللغة، وفيهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظُ للسيف خمسين اسماً، فتبسّم أبو علي وقال: ما احفظ له الا اسماً واحداً، وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهنَّدُ والصّارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفاتٌ: وكأنّ الشيخ لا يفرِّقُ بين الاسم والصفة».
وعلى اية حال فان الترادف موجود في اللغة ولكن عند التدقيق نجد ان الترادف جاء في لغة العرب لاضافة معنى بلاغي وايضاح معنى بياني ليس في غيره، وهو يسعف الشعراء والخطباء والكتاب في سعته وقدرته على ايضاح التعبير واجلاء البيان. وميزة للغة جعلتها لغة ملهمة لاهل التعبير. حيث ان الفصاحة مادتها اللسان، والبلاغة مادتها التعابير والقدرة بها على البيان.
وكي لانطيل الموضوع ونختصر الكلام فاقول ان هذا الموضوع حري بالبحث والتنقيب، والجد والاجتهاد، لانه قوام علم فقه اللغة وعماده واساس مادته، هذا العلم الذي يجب ان يحييه اهل اللغة الشريفة السامية التي اصطفاها اللّه وعاءً لحكمته، ومناراً لهدايته ، وخلدها بتنزيله شرعته ومنهاجه للعالمين بها. اللهم فقهنا في ديننا ولغة ديننا وعلمنا ما جهلنا وزدنا اللهم علما، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.