11- الحلقة الحادية عشرة من سلسلة حديث الاثنين في مباحث الايمان والعقيدة
*ملاحظة* : هذه سلسلة خاصة متخصصة لطلاب موضوعها !!
الادلة والاستدلال -ب-:
الادلة جمع دليل وهو المرشد والهادي والبينة ، والاستدلال هو الطريقة الصحيحة التي ينهجها اهل العقل واهل العلم للتوصل من الدليل الى ما يوجبه من نفي خبر او اثباته ، وهذا ما بيناه في الحلقة السابقة...
وطالما ان العقل تشكله العقيدة وتبنيه افكارها وتؤسس لمنظاره التي بها ينظر للاشياء وعلى اساسها يحلل الامور، كما انها تشكل النفسية لدى الانسان فبفاهيمها وقيمها المنبثقة منها او المبنية عليها يتصرف الانسان وتتشكل مشاعره واحاسيسه ودوافع سلوكه.. فالعقيدة امر اساسي في الوجود الانساني والحياة البشرية ..
فلذلك لا بد من بناء العقيدة بناءً صحيحاً موثوقاً مقطوعا به..لنبني العقل الصحيح والمنظار اواضح الذي به ننظر للحقائق والامور العقلية..
والعقل في عقيدة الاسلام أول الأدلة، وهو الذي أثبت وجود الخالق وصفات الألوهية، والتوحيد.
الا ان عمل العقل يكون في الواقع المحسوس الواقع تحت حواس مدركاته الحسية، أو المحسوس أثره.
ولكن لا شأن للعقل بالغيبيات سوى ما كان في إثبات أصلها فقط . وما سوى ذلك فالعقل لا يعقل ولا يحكم على الغيب مطلقا. فهو هنا مُسَلِّم مستسلم للدليل القطعي الثبوت والقطعي الدلالة فقط .
فالدليل السمعي او النقلي لا يخلوا ان يكون واحدا من اربع :-
1- ظني الدلالة قطعي الثبوت ، وذلك كالقطع بكل ما روي متواتر واستحال الاجتماع على الكذب في نقله والاخبار به فهو قطعي الثبوت ، كالقران الكريم والحديث النبوي المتواتر ، فهذا مقطوع بنقله وثبوته ونسبته الى قول الشارع الحكيم..
فهو افاد القطع والجزم بثبوت نسبته ، الا انه احتمل معنى يتطلب الى تفسير وتأويل ، فمثل هذا الدليل لا يُستدل به على مسائل العقيدة لان افادته للمعنى محتملة له ومحتملة لغيره وهنا يحصل الظن ، والعقيدة لا تبنى على ظن ولا شك، فاذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال ، والاحتما ل هنا دخل من خلال احتمال النص او الخبر لاكثر من معنى ... وذلك كقوله تعالى (او لامستم النساء) فلفظ لامستم احتمل مجرد اللمس كما ذهب الامام الشافعي واحتمل معنى الجماع كما عند احمد وابي حنيفة .. ومثله قوله تعالى (يد الله فوق ايديهم) فاحتمل المعنى افادة القدرة والقوة ، واحتمل افادة اليد الجارحة،فلا بد لترجيح المعنى من قرائن ومؤيدات تقوي المعنى المنقدح في الذهن من فهم النص ، وكل ما يحتاج فهمه و يتطلب توجيهه الى مؤيد واثبات فهو احتمالي الدلالة لا قطعيها ... وان كان قطعي الثبوت ..
2- قطعي الدلالة ظني الثبوت : وهو ما افادت الفاظه معنى واحدا ولا تحتما معنى اخر، فافاد القطع في دلالته على موضوع خبره، الا انه غير مقطوع بثبوته ويحتمل عدم قوله ونسبته للشارع الحكيم، فهذا يبني غلبة ظن وتصديق ولا يبني ايمانا ويقينا جازما ، وهذا ما يُعرف في شرعنا وعلومه بخبر الاحاد، فيستدل به على ما يتطلب مجرد التصديق ان نقله من عرف بالصدق ولم يُعهد عنه الكذب او ما يطعن في نقله ...فتبنى على هذا النوع من النقول الاحكام الشرعية التي يتطلب وجودها الى غلبة الظن بصدق الناقل، وليس الامور الايمانية الاعتقادية ..
وهذا لا يعني تكذيب خبر الاحاد !! بل يُلزم بتصديقه طالما ان طريق نقله لا يحتمل الكذب ولا يحتمل ما يدعوا الى الشك في صدق ناقليه ، فيجب تصديقه ويحرم تكذيبه ولا يبتنى عليه او به اعتقاد ويقين لانه افاد مجرد التصديق وليس الجزم بالتصديق ..
3- ظني الثبوت وظني الدلالة :- وهو ما لم يثبت القطع بنسبته للشارع الحكيم من حيث جهة الرواية والرواة وما لم يفد معنى واحدا مقطوعا بدلالته عليه، وهذا ان ثبت صحة روايته ايضا ولد غلبة ظن ولم يولد اعتقادا وتصديقا جازما من حيث ثبوته، وكذلك من حيث اقادته لخبره ودلالته عليه ،حيث احتمل اكثر من وجه وافاد احتمال اكثر من معنى ، فالاحتمال دخل عليه من حيث ظنية ثبوته من جهة وظنية افادته لخبره من جهة اخرى، وفي الاعتقاد اذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال ، اي انه لا يسح ان يكون دليلا لافادة معتقد ...
4- الدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة:- وقطعي الثبوت هو ما استحال على العقل نفيه وبرهن العقل على اثبات صدقه فيما يخبر عنه ، وقطعي الدلالة هو ما لم يحتمل نصه وبيانه على اكثر من وجه واحد في الفهم والمعنى وافادة الخبر، (كقوله تعالى : (قل هو الله احد ، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد)، ومن أمثلته في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم : “مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبوأ مَقْعده من النار”.
وبناءً على ما سبق فان الاعتقاد الصحيح يجب أن يُسلَك فيه مسالك اليقين والجزم والقطع، والظن والتقليد يخالفانه. و على ذلك فالعقيدة لا تُؤْخَذ إلا من دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولا يجوز أن تُؤْخَذ من دليل ظني لا ثبوتاً ولا دلالةُ، فغير الدليل القطعي لا يصح بناء العقيدة عليه، بل يستحيل عقلا؛ لأن الاعتقاد جَزْم وقطع لا يقبل التردد، فإذا بُنِي على ما يحتمل الخطأ مهما قلّ الاحتمال لم يكن اعتقاداً أصلا، فبين الأمرين تناقض تام؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا الـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15].
يقول السفاريني الحنبلي رحمه الله : “واعتبر في أدلتها اليقين؛ لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات، بل في العمليات”([لوامع الانوار]).
فلا توجد قضايا اعتقادية أساسية انفرد الدليل الظني – كخبر الآحاد – بإثباتها، وليس لها أصلٌ في القرآن الكريم أو السنة المتواترة، سواء أكان تواترًا لفظيًّا أم معنويًّا، فإذا ثبت أصلُ القضية العقدية بالقرآن الكريم أو السنة المتواترة، فتقبل أخبار الآحاد الصحيحة في بيان تفاصيلها وفروعها....وهذا القول يُثَبِّت العقيدة ويُنقيِّها من كل شائبة لتبني العقل المؤمن الموحد ، والنفس المؤمنة التزمة استسلام لامر ربها، ويجعل العقل في مأمن من التناقض والعبث، فهو ليس قولاً يُشكِّك في العقيدة أو يَحُطُّ من قيمتها بل يرفعها ويسموا بها عن القليد واتباع الظن وورود الشك ، ويجعل منها قاعدة متينة لبناء العقل السليم المبني على معتقد صحيح سليم.
وبناءً على ذلك: فان أحاديث الآحاد يجب تصديقها دون اعتقادها ، ويجب العمل بها في الأحكام الشرعية العملية، باعتبارها فروعا، فإنه يُكتفى بالظن الغالب في إثبات فروع الأحكام الشرعية العملية، التي تعتمد على اجتهادات المجتهدين واستنباطاتهم.. وإن اختلف المجتهدون في النتائج التي توصلوا إليها، لأن الغرض منها تحقيق معنى عبادة الله بالصورة التي يرضاها الله منا، وقد رَضِي منا سبحانه حتمًا أن نعبده تعالى بالصورة التي يصل إلى تحديدها اجتهادُ المجتهدين منا، وهم الذين توفرت لديهم أهلية الاجتهاد والبحث في مصادر الشريعة.. فقد قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)النحل) ، وقال تعالى :- (...وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) النساء). وقال تعالى-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ...
و إن الإجماع لمنعقد على عدم تكفير مخالف خبر الواحد، بل حكموا بتفسيقه، وما ذاك إلا لأنه لا يفيد العلم، فليس كالمتواتر الذي يكفر من انكره، ويبدع مَن رده بدون تأويل.. فلو كان خبر الواحد يفيد العلم - اي اليقين والجزم- لما احتيج إلى عدد من الشهود، ولجاز الحكم بشاهد واحد، ولم نحتج معه إلى شاهد آخر، وإلى يمين عند عدمه، ولا احتجنا كذلك الزيادة في الشهادة في الزنا واللواط؛ لأن العلم بشهادة الواحد حاصل، وليس بعد حصول العلم مطلوب، لكن الحكم بشهادة واحد بمجرده لا يجوز، وذلك يدل على أنه لا يفيد العلم.... و لو أفاد خبر الواحد العلم لما تعارض خبران، لأن ما يفيد العلم لا يتعارض، كما لا تتعارض أخبار التواتر، لكنا رأينا التعارض كثيرا في أخبار الآحاد، وذلك يدل على أنها لا تفيد العلم. و لو كان خبر الواحد مفيدًا للعلم لوجب على القاضي أن يصدِّق المدعي على غيره من غير بينة؛ لأن العلم يحصل بقوله، فلما ثبت أنه لا يُصدَّق إلا ببينة ثبت أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد العلم ولا يبنى عليه يقين.. ثم ان خبر الواحد الصحيح يفيد الصدق والقبول، لكن يقع في ذهن العالم أنه قد يحتمل وقوع الخطأ أو الكذب فيه، فإن الراوي الثقة ليس معصوما من الذنب، وليس وصفه بالضبط يعني أنه لا يخطئ، ولا يتطرق إلى خبره شك، بل يعتبر ثقة إذا كانت أوهامه نادرة.
فالاحتمال موجود في تصور العقل، لكنه بعيد لغلبة الظن بصدق الراوي وأمانته وضبطه للحديث، " فكان من منهج العلماء العلمي الدقيق التنبيهُ على مثل هذا الفرق، لوضع كل شيء في موضعه الذي هو عليه، وإن كان مثل هذا قد يخفى على كثير من الناس – ولاسيما العوام -، بل إن عامة الناس، بل بعض أهل العلم الذين لم يمهروا في تطبيق علم الحديث ، وقد يكتفي بتديُّن الشخص عن اتصافه بالضبط، يقول أحدهم: “حدثني فلان وهو رجل صدوق لو قطعت عنقه لم يكذب”، أما المحدث فلا يكتفي بذلك لقبول خبره حتى يتثبَّت من ضبطه .. (انظر نور الدين عتر - خبر الواحد الصحيح واثره في العمل والعقيدة). فمن المقرر عند العلماء أن التصحيح والتحسين والتضعيف من الأمور الاجتهادية، التي يُتَّفق في بعضها و يختلف في كثير منها.
ثم ان عدم الأخذ بخبر الواحد في إثبات العقيدة لا يعني إنكاره، أو عدم العمل به، أو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكذيب الصحابة- وإنما يعني عدم القطع في إثبات المسائل التي استدل بخبر الواحد عليها كمسائل عقائدية, بل يجري ترجيح تصديقها, ولا يجري القطع بها بحيث يكفر المخالف فيها فيوجب عليه حد الردة، ولكنه قد يفسق ويعزر ان كان امره فيه افساد وفتنة ...
اللهم فقهنا في ديننا واعصمنا بالفهم الصحيح واتباع الصراط المستقيم واعزنا بنصرك وتأييدك وتثبيتك لنا على الحق وانصرنا على كل من عادى الاسلام والمسلمين .. والى اللقاء في حديث جديد نستودعكم الله دينكم واماناتكم وخواتيم اعمالكم والنهوض للعمل على نهضة امتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-06-10, 9:02 am عدل 1 مرات